امتهان المقدسات بوصفه أداة نيوليبرالية

 قبل سنوات دار بيني وبين مجموعة من المسيحيين الأمريكان -كلٌّ على حدة- حوار حول تجديف هوليوود، تحديدًا بامتهان المسيحية في كثير من أفلام ومسلسلات الكوميديا والرعب والغموض والأساطير، حتى تحول يسوع (Jesus) -[تعالى عليه السلام]- إلى أيقونة للتهكم والسخرية في ثقافة البوب pop culture، من خلال الميمز، وأساليب التمجيد الساخرة البذيئة [holy cow، holy sh*t، holy moly، gosh..] وكان سؤالي هو عن شعورهم حيال ذلك. الغريب، كان رد كل واحد منهم هو الرد نفسه، وكأنما بُرمِجوا عليه. هذا -كما يقولون- شأن خاص لا يتدخلون فيه، فالناس لهم حرية التعبير والاعتقاد، وهو في الأخير مجرد لهو، وأن يسوع الذي يُسخر منه هو يسوع مختلق لا علاقة له بيسوع الذي يؤمنون به، وحتى لو كان المقصود هو يسوع ذاته، فلا يضير قداسته أن تسخر منه هوليوود.


الحقيقة أن موقفًا كهذا غير مستغرب، خصوصا من المسيحيين. فهم ذوو الرهبانية المنكفئة التي تُعلم المسيحي بأن يدير خده الآخر لمن صفعه ليصفعه مرة أخرى. كما أن مداهناتهم "طويلة المدى" لأديولوجيات التنوير الأوروبي، انتهت بهم إلى أن لفّقوا لأنفسهم مسيحية متوائمة مع تلك الأديولوجيات المعادية للقيم والثوابت الإنسانية.

نُظُم مابعدالحداثة (وعلى رأسها الرأسمالية النيوليبرالية) مهووسة بتدمير أي ثوابت وقيم ومقدّسات، وهي تمارس ذلك من خلال تكريس الفردانية المتوحشة الموجهة باللذة الصِّرفة، ذلك لأن القيم والمقدسات تعني قيود على الكيانات الاقتصادية وعلى رؤوس الأموال، سواء بإلزام هذه الكيانات بمسؤوليات اجتماعية، أو بتأطير السلع والاستهلاك ضمن إطار معين، أو بحصرها في نطاق جغرافي محدود، حيث يبقى هنالك هامش لقيم وثقافات ومقدسات ومواقع لا يمكن اختراقها وتداولها اقتصاديًا، وهذا ما يرفضه النيوليبراليون بتطرّف. فمن منظور نيوليبرالي، القيم الوحيدة العُليا هي قيم السوق، [العرض والطلب] هما المحددان الفعليان لقيمة أي شيء في الوجود، ولو كان رمزًا مقدسًا. فلكي يصير كل شيء قابلًا للتداول الاقتصادي، ولكي تستطيع أن تخترق الشركات العملاقة حدود أي بلد، ينبغي أن يُفرّغ الإنسان في ذلك البلد من أي مضمون إنساني، من الدين والثقافة والتقاليد والعِرْق (تحت شعارات عائمة مثل "الإنسانية"، "حرية التعبير"، "تحرير الفن") بحيث يُصهر الجميع في قالب واحد، قالب الإنسان الذي يرصد كل شيء من منظور اللذة وحدها، وبالتالي يسلك ذات السلوك أيًّا كانت جذوره، مما يحول العالم -كما يقول النيوليبراليون- لقرية صغيرة، وبالتالي لشعب واحد بمعايير موحدة (العولمة) يسهل التنبؤ به وترويضه. في عالم كهذا، يصبح معيار الفن -مثلًا- هو المتعة الصِّرفة، حتى لو كانت متعة مؤسسة على التجديف. وعندما يكون المركز للمتعة وحدها، فإن كل شيء سيكون قابلًا للبيع والشراء والعبث واللهو ما دام يوفر متعة. وبالتالي تصير مساحة [العرض والطلب] لا تخضع لأي قيم، بل إن كل القيم تخضع لها.

نحن عندما ندافع عن مقدساتنا في هذه الحقبة المحتقنة من التاريخ، نحن لا ننتصر لمعتقدنا فحسب، بل إننا نصمد في سبيل انتشال الإنسانية جمعاء، إننا نقود مواجهة حاسمة في واحدة من أخطر جبهات التاريخ. وهي مواجهة طالما كانت مضمونة لصالح المبادئ وأصحابها.

إن الخطاب الذي يقول لنا بأن نتجاهل الهجوم على تقاليدنا ومقدساتنا، هو -بحسن أو سوء نية- يحولنا لمسلمين متواطئين مع هذه الحضارة "السوقية"، بحيث يتولّد في الأخير إسلام -كالمسيحية- بليد متخاذل يمكن تداوله في البورصة وشبابيك السينما.

قد يكون تجاهل الإساءة للمقدسات حصافة عندما يصدر من فرد أو جهة ليس لها شأن، لكن عندما يكون نزعة عولمية تتولى كبرها دول ومؤسسات إحصائية وبحثية، فالصمت حينئذٍ يكونُ خيانةً للمعتقد.

علينا أن نتبنّىٰ هذه المواجهة لأقصى حد، فلا ندافع عن رسولنا ﷺ وحده، بل عن كل الرسالات والرسل، فنحن أحق بعيسى ﷺ من المسيحيين وأحق بكل المقدسات التي نؤمن بها، وأحق بكل القيم الإنسانية. علينا أن نرفض تسييل القيم مهما بدا هامشيًا أو تافهًا، وألّا نستمرئه بأن نتماهى بأي قدر معه بمبررات هشة من أجل تسلية عابرة، لأنه لا شيء إطلاقًا يمكن أن يبرر تماهي الإنسان مع الذين اتخذوا المقدسات هزوا، مع «الأخسرين أعمالا».

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ويكيبيديا: عالم مفتوح للمعرفة أم أداة للسيطرة؟

كبح الرجل بكاءه: تقليد ذكوري بالي أم ضرورة أخلاقية؟

الاعتزال بوصفه أداة للاختراق الأديولوجي