إحياء هوية العرق والنسب مجابهةً للعولمة

 جوهر الإنسان هو شخصه لا نسبه، وهذا هو المعيار المطلق في التعامل مع الناس أيًّا كانت أصولهم ومعتقداتهم. ومع ذلك، فإن هنالك [ترابطًا] وثيقًا بين عراقة النسب وبين الأخلاق ومناقب المروءة، على الأقل من حيث "التعويل". فكلما كان الإنسان أشرف نسبًا كلما رُجيَ منه أن يكون أنبل. وهذا التعويل لم يَشِع بين الناس اعتباطًا، بل إنه نشأ عمّا جربوه من بعضهم. ومع أننا لم نزل نحيا هذه التجارب، إلا أن هنالك ثقافة (شائعة كذلك) مضادة لهذا [الترابط]، مما يجعلنا حياله منفصمين؛ فنحن نؤمن به تلقائيًا، لكننا ننكره بأثر هذه الثقافة المضادة.

تتمثل هذه الثقافة في نوع من الاستقراء المُعَمَّم للدروس النبوية التي وردت في نبذ المعاملة على أساس النسب، بحيث يسوقها هذا الاستقراء مساق النبذ المطلق لكل ما يربط الإنسان بنسبه. ليس هذا مقام عرض الأحاديث وتحليلها، إلا أن الجامع بين هذه الأحاديث هو أنها كانت تؤسس في العربي القديم -الذي كان العرق والنسب منظوريه المركزيين للآخر- رؤية وجودية جديدة. رؤية تحرره هو أولًا من قصوره في النظر للآخر، وتنفذ به إلى أبعد من هذه المناظير التي تغلب عليها المادية، وتحرر الآخر ثانيًا من أسر هذا الاختزال الذي يُودِي حتمًا إلى إلغاء جوهره.

وأما الإيحاء الذي تتضمنه هذه الأحاديث بانفكاك الأخلاق عن النسب [مطلقًا]، هو إيحاء ظاهري. فهي لا تلغي التجربة المعيارية المتوارثة في البشر التي تربط بين النبل والعلم والأخلاق وبين البيوت العريقة شريفة النسب وكل ما في الأمر أنها تزودنا بمعايير أقوى في نظرنا للآخر دون أن تُلغي المعايير الأخرى، فالغاية هدم النسب في وجدان العربي بوصفه صنمًا، لا بوصفه معيارًا.

ساهم الشعر كذلك بأبيات قوية في تشييع هذا الفصل بين النسب والأخلاق، وهي كذلك أشهر من أن تُسرَد وتُحَلَّل، ويكفينا هنا أن نذكّر بأن الشعر هو مجرد تجربة ذاتية تخص الشاعر وحده، وأن الفخر بالذات هو دائمًا مرتبط بالهوس والنشوة لا بالحقائق والمعايير. فمعيارنا التجارب التي تكرّست في واقع البشر، لا فخر الشاعر بنفسه ونكرانه لفضل آباءه عليه.

‏___

‏في عصر الاختزال العولمي المتوحش للإنسان، والتبديد الضاري لرؤاه الثقافية الخاصة، صار علينا أن نعيد النظر في مفاهيم كثيرة -مسألة النسب والعرق أحدها-، مفاهيم تجذّرت عبر قرون طويلة كمسلّمات وعُمِّمَت بطريقة هوسيّة حالت دون فحص أبعادها وما يمكن أن تؤول إليه فحصًا علميًا. ومآلاتها، كما نشهدها اليوم، هو تحوُّلها لبروكسيات عولمية لاختراق الإنسان، ومعاول للهدم الثقافي وتبديد كل ما له علاقة بالأصالة والعراقة والتراث. فعندما يُهدم امتداد الإنسان التاريخي، يُهدم هو ذاته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ويكيبيديا: عالم مفتوح للمعرفة أم أداة للسيطرة؟

كبح الرجل بكاءه: تقليد ذكوري بالي أم ضرورة أخلاقية؟

الاعتزال بوصفه أداة للاختراق الأديولوجي