التلذذية وانهيار الحضارات

 لا يمكن أن تروج التلذذية الجنسية وعبادة الرموز والمشاهير في مجتمع قبل تصفير قواه أولا، وأسرع طريقة لتصفير القوى هي إلغاء منظومة الأحكام التقاليدية المهيمنة على التاريخ بكل خلفياتها المعرفية والثقافية.

الأحكام تعني قيود، والقيود بمضامينها هي الفيصل الصارم بين المجتمعات الراقية والأخرى المتورطة في صياغة فلسفة واضحة لماهية الإنسان. فالمجتمع الذي ينطلق في التقييد من الفردانية والغايات الاقتصادية، ليس كالذي يتقيّد انطلاقًا من معانٍ مطلقة متجاوزة للإنسان وشاملة للإنسانية كلها. الأول هو مجتمع مضغوط في تصور مادي، وبالتالي فمنتهى الإنسان في هذا المجتمع هو كيانه المادي (الجسد)، والآخر هو مجتمع يرى في الجسد مجرد أداة لتحقيق معانٍ أعلى من الظاهر المادي، لذلك هو يؤمن بمشترك إنساني متجاوز للأنا، وبدون هذا المشترك تُبدد الأنا ذاتها عبر تبديد الآخر. لأنه بلا منظومة مطلقة يكون مآل الأنا الحتمي التمركز حول الذات أو الأديولوجيا، وبالتالي تتحول لكيان تدميري لا ينظر للآخر إلا من منظور الأنا أو الأديولوجيا، فيكون تعايشه مع الآخر مرتهن بمدى تماهي هذا الآخر معه، فإن لّم يستطع ابتلاعه أفناه. وفي غياب القيم العليا المطلقة، تستمر الأنا بالتناقض مع ذاتها في ديالكتيك لانهائي (جدلية لانهائية) ينتهي بها في الأخير إلى تدمير ذاتها هي.

يسمى المجتمع المتجرد من القيود منحلًا، والانحلال هو ببساطة الانفكاك من القيد. ولعل المصطلح أصبح دون غيره علامة على احتضار المجتمعات لأنه يتضمن فكرة مفادها أنه بمجرد التفلت من القيود، فإن المجتمع يدخل في حالة من التّوه الوجودي وفقدان الشخصية.

القيود هي نوع من الجبر الضروري للبقاء، لأنها تعطي الكيان القدرة على أن يتخذ موقفًا من الأشياء، وبدون هذه القدرة يكون الفرد أو المجتمع مجرد كيان محتقن بالتناقضات، ولا يجد حلًّا ليتجاوز تناقضاته سوى أن يتخلى عن التصنيفات المعرفية والثقافية وإنتاج الأحكام الأخلاقية، وهذا يستلزم أن يتحول في النهاية إلى كيان مُلغى. عندما يُلغى الكيان يعني أن موقفه الفلسفي ملغى كذلك، وبالتالي لم يعد له أحكام على الوجود، مما يعني أنه فقد إمكانية البقاء، لأن انعدام القدرة على إصدار الأحكام حيال المواقف والأشياء لا يعني سوى أن الإنسان صار مستفحل القصور أشبه بطفل رضيع، وبذلك لم يعد كفؤًا ليبقى، ومآله الحتمي الفناء.

هذا طرح لربما بدا صعب الامتزاج، لأن البقاء مسألة مادية وإنتاج الأحكام مسألة مجردة -وهذه صعوبة ناتجة عن هيمنة النموذج المادي التجزيئي- ولكن الأحكام هي التي تحدد شكل تفاعل الأفراد مع بعضهم، وبالتالي هي التي تحدد منطلقات الإنسان وغاياته القصوى، وهي التي تحيله في الأخير إلى تلذذي hedonist متمركز حول اللذة، أو مبادئي متمركز حول سلامة الإنسانية.

هذا الانحلال من القيود يستلزم في النهاية الانحلال من الوجود كله، لأن ينتهي حتمًا إلى إلغاء الذات. فقبل أن تبيد الحضارة، تكون قد ألغت ذاتها أصلًا بتعويمها الأحكام لصالح التلذذية، التلذذية التي عادة ما تكون أداة الهيمنة الرئيسية في فلسفة الإدارات الأخيرة للحضارات البائدة.

إن الإنسان التلذذي خطير لأنه مهووس باللذة للحد الذي يجعله يفقد السيطرة وضبط الذات حالما يفقدها، فيُحبَط أو ينهار أو يتوحش. لذلك عندما يسود في حضارة فهو يعلن احتضارها، لأن إنسانًا كهذا يفشل في ضبط الذات، كيف يكون وتدًا لحضارة؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ويكيبيديا: عالم مفتوح للمعرفة أم أداة للسيطرة؟

كبح الرجل بكاءه: تقليد ذكوري بالي أم ضرورة أخلاقية؟

الاعتزال بوصفه أداة للاختراق الأديولوجي