المشاركات

التلذذية وانهيار الدول - الدولة العباسية نموذجًا

صورة
  في الكُتَيّب: ‏مصير الامبراطوريات والبحث عن البقاء ‏The Fate of Empires and Search for Survival (1978) ‏يقول جون چلوب John Glubb أن متوسط سنوات العَظَمَة لأي أمة هو 250 سنة. لم يختلف هذا المتوسط في كل الأمم التي سادت خلال 3000 سنة. تمر كل أمة بستة عصور: ‏(1) عصر الرواد/الفورة - عصر المؤسسين الذي يبدؤون تأسيس الحضارة متحدّين كل العقبات. ‏(2) عصر الفتوحات. ‏(3) عصر التجارة. ‏(4) عصر الثراء. ‏(5) عصر الذكاء. ‏(6) عصر الانحطاط - المتمثل في: ‏- الدفاعية (تقديم الرفاه والسلام والتوقف عن الفتوحات). ‏- دولة الرفاه. ‏- التشاؤمية (إثر بداية انحسار سلطان الأمة وثرواتها). ‏- المادية وانحسار الدين وتراخي الأخلاق الجنسية. ‏- تدفّق الأجانب. أحد أسباب انهيار الامبراطوريات التي يذكرها چلوب، هو زيادة التأثير النسوي في الواقع الاجتماعي. يذكر چلوب أن الرومان المتأخرين - مع أن روما كانت تحكم العالم حينها - اشتكوا من كون النساء يحكمن روما. يستخدم چلوب "الإمبراطورية العربية" كنموذج. يرى چلوب أن الاضطرابات الاجتماعية والأمنية التي اندلعت في الدولة العباسية عقب اغتيال المتوكل (861م) لسنوات طويلة -و

التلذذية وانهيار الحضارات

 لا يمكن أن تروج التلذذية الجنسية وعبادة الرموز والمشاهير في مجتمع قبل تصفير قواه أولا، وأسرع طريقة لتصفير القوى هي إلغاء منظومة الأحكام التقاليدية المهيمنة على التاريخ بكل خلفياتها المعرفية والثقافية. الأحكام تعني قيود، والقيود بمضامينها هي الفيصل الصارم بين المجتمعات الراقية والأخرى المتورطة في صياغة فلسفة واضحة لماهية الإنسان. فالمجتمع الذي ينطلق في التقييد من الفردانية والغايات الاقتصادية، ليس كالذي يتقيّد انطلاقًا من معانٍ مطلقة متجاوزة للإنسان وشاملة للإنسانية كلها. الأول هو مجتمع مضغوط في تصور مادي، وبالتالي فمنتهى الإنسان في هذا المجتمع هو كيانه المادي (الجسد)، والآخر هو مجتمع يرى في الجسد مجرد أداة لتحقيق معانٍ أعلى من الظاهر المادي، لذلك هو يؤمن بمشترك إنساني متجاوز للأنا، وبدون هذا المشترك تُبدد الأنا ذاتها عبر تبديد الآخر. لأنه بلا منظومة مطلقة يكون مآل الأنا الحتمي التمركز حول الذات أو الأديولوجيا، وبالتالي تتحول لكيان تدميري لا ينظر للآخر إلا من منظور الأنا أو الأديولوجيا، فيكون تعايشه مع الآخر مرتهن بمدى تماهي هذا الآخر معه، فإن لّم يستطع ابتلاعه أفناه. وفي غياب القيم ال

الاعتزال بوصفه أداة للاختراق الأديولوجي

 بعد انحسار المعتزلة انتهى الحال بتراثهم للُعبة بأيدي الأكادميين وبروكسيات أنظمة الحداثة ومابعدها، وتحول الاعتزال لحصان طروادة لاختراق المناهج المعرفية الأصولية الراسخة وتعويمها لصالح المزاج العالمي السائد. والحقيقة أن المعتزلة ظُلِموا بافتراءِ أولاءِ عليهم بتقديمهم العقل على النص، وخلاصة معتقد المعتزلة هو أن «العقل كاشف لحكم الشرع»، فالشرع والعقل لا ينبغي أن يتعارضان لأن مصدرهما واحد. فإذا ثَبَتَ للعقل حُكْمٌ ما، فحكم العقل هو غاية حكم الشرع. وعكس ذلك صحيح.  وهذا يعني أن المعتزلة لم يجعلوا العقل مقدمًا على الشرع، بل جعلوه في مستوىً واحد معه، وهم مع ذلك يقرّون بأن العقل قد يَعْتَل أو يُثبّط لأي أمر، فيكون الشرع هو الكاشف عن حكمه الحقيقي. وبذلك، إن ثَبَتَ حُكْمٌ للشّرع، فذلك هو حكمُ العقل، وما بدى قبله حكمًا عقليًا يكون معتلٌ باطل.  ولهذا كانت معايير المعتزلة في قبول النصوص متطرفة جدا، وتطرّفت المدرسة النظامية حَدَّ أنها جوّزت وقوع التواتر كذبًا. وربما من هنا حصل الارتباك عند المعتزلة في تحديد ما هو حكم الشرع وكيف يُستدل عليه ابتداءً بالعقل.  الخلاصة أن التسويق للعقل بجعله فوق النص ونفخ

إحياء هوية العرق والنسب مجابهةً للعولمة

 جوهر الإنسان هو شخصه لا نسبه، وهذا هو المعيار المطلق في التعامل مع الناس أيًّا كانت أصولهم ومعتقداتهم. ومع ذلك، فإن هنالك [ترابطًا] وثيقًا بين عراقة النسب وبين الأخلاق ومناقب المروءة، على الأقل من حيث "التعويل". فكلما كان الإنسان أشرف نسبًا كلما رُجيَ منه أن يكون أنبل. وهذا التعويل لم يَشِع بين الناس اعتباطًا، بل إنه نشأ عمّا جربوه من بعضهم. ومع أننا لم نزل نحيا هذه التجارب، إلا أن هنالك ثقافة (شائعة كذلك) مضادة لهذا [الترابط]، مما يجعلنا حياله منفصمين؛ فنحن نؤمن به تلقائيًا، لكننا ننكره بأثر هذه الثقافة المضادة. تتمثل هذه الثقافة في نوع من الاستقراء المُعَمَّم للدروس النبوية التي وردت في نبذ المعاملة على أساس النسب، بحيث يسوقها هذا الاستقراء مساق النبذ المطلق لكل ما يربط الإنسان بنسبه. ليس هذا مقام عرض الأحاديث وتحليلها، إلا أن الجامع بين هذه الأحاديث هو أنها كانت تؤسس في العربي القديم -الذي كان العرق والنسب منظوريه المركزيين للآخر- رؤية وجودية جديدة. رؤية تحرره هو أولًا من قصوره في النظر للآخر، وتنفذ به إلى أبعد من هذه المناظير التي تغلب عليها المادية، وتحرر الآخر ثانيًا م

امتهان المقدسات بوصفه أداة نيوليبرالية

  قبل سنوات دار بيني وبين مجموعة من المسيحيين الأمريكان -كلٌّ على حدة- حوار حول تجديف هوليوود، تحديدًا بامتهان المسيحية في كثير من أفلام ومسلسلات الكوميديا والرعب والغموض والأساطير، حتى تحول يسوع (Jesus) -[تعالى عليه السلام]- إلى أيقونة للتهكم والسخرية في ثقافة البوب pop culture، من خلال الميمز، وأساليب التمجيد الساخرة البذيئة [holy cow، holy sh*t، holy moly، gosh..] وكان سؤالي هو عن شعورهم حيال ذلك. الغريب، كان رد كل واحد منهم هو الرد نفسه، وكأنما بُرمِجوا عليه. هذا -كما يقولون- شأن خاص لا يتدخلون فيه، فالناس لهم حرية التعبير والاعتقاد، وهو في الأخير مجرد لهو، وأن يسوع الذي يُسخر منه هو يسوع مختلق لا علاقة له بيسوع الذي يؤمنون به، وحتى لو كان المقصود هو يسوع ذاته، فلا يضير قداسته أن تسخر منه هوليوود. الحقيقة أن موقفًا كهذا غير مستغرب، خصوصا من المسيحيين. فهم ذوو الرهبانية المنكفئة التي تُعلم المسيحي بأن يدير خده الآخر لمن صفعه ليصفعه مرة أخرى. كما أن مداهناتهم "طويلة المدى" لأديولوجيات التنوير الأوروبي، انتهت بهم إلى أن لفّقوا لأنفسهم مسيحية متوائمة مع تلك الأديولوجيات المعا

فرانز فانون حول الحجاب والاستعمار

 «..كل حجاب منزوع يكشف للمستعمرين آفاقا كانت ممنوعة، يبرز لهم قطعة قطعة الجسد الجزائري المُعرىٰ، وبعد سفور كل وجه تظهر روح المحتل العدائية، وبالتالي آماله، مضاعفة عشرات المرات، وتعلن كل امرأة جزائرية جديدة سافرة للمحتل عن مجتمع جزائري تأذن نظمه الدفاعية بالتفسخ، وأنه مجتمع مفتوح ومُمَهَّد. وكل حجاب يسقط، وكل جسم يتحرر من وثاق الحايك (الحجاب الذي كانت ترتديه الجزائريات حينها) التقليدي وكل وجه يبرز لنظر المحتل الوقح، يكشف على نحو سلبي بأن الجزائر قد بدأت بالتنكر لنفسها، وتقبّل هتك سترها من قبل المستعمِر. ويبدو المجتمع الجزائري مع كل حجاب مهجور أنه يرضى بوضع نفسه في مدرسة السيد، وأنه يقرر تغيير عاداته تحت إدارة وإشراف الاستعمار. فإذا كان المستعمِر ينظر إلي نزع حجاب المرأة الجزائرية على أنه وسيلة لهتك القيم الحضارية والثقافية للمجتمع الجزائري ويبني استراتيجية الغزو والهيمنة والإلحاق على هذا الأمر، فمن المنطقي أن ينظر الشعب الجزائري إلى التمسك بالحجاب على أنه وسيلة من وسائل المقاومة للحفاظ على الشخصية الحضارية، ولمقاومة التذويب في الثقافة الفرنسية، وبالتالي مقاومة التلاشي حضاريا وسياسيا كما

الحجاب من منظور الصراع الحضاري

  تكمن القوة الرمزية للحجاب -ليس في كونه مجرد ثورة على الثورة الجنسية وتسليع المرأة، وإن كان ذلك حقيقي، إلا أنه مكمن يحاصر الحجاب في نطاق محدود مختزل- بل تكمن قوته الرمزية في كونه تقليد يستعصي على أي تفسيرات حداثية أو مابعدحداثية. إنه رمز تقاليدي صِرف محمّل بمضامين تاريخية وحضارية عريقة تتناقض بشراسة مع الحضارة القائمة المؤسَّسَة على تبديد التقاليد. فهو -مثلاً- يؤكد على بُعد القداسة المضفى على المرأة بوصفها وعاء الخلق، والذي يجعل معاني التبتل كالعفاف والحياء لصيقة بها أكثر، ويجعل الرذيلة الصادرة عنها أشنع. كما أنه يؤكد على أن الجنس في مستواه الغريزي الجسدي هو دافع أصيل في علاقة الرجل بالمرأة. بالتالي فهو يلغي أي أديولوجيا -سواء اجتماعية أو اقتصادية- تحاول صهر الذكورة والأنوثة في قالب واحد متجاوزة بذلك كل الغرائز والمعارف والتجارب الاجتماعية التي أكدت عليها كل الحضارات السابقة. إن حضور الحجاب يعني حضور هذه المضامين التقاليدية بكل ثقلها الحضاري والفلسفي، ولو أردنا أن نصيغه صياغة ثورية محرَّرة، فالحجاب رمز حضاري يقسم التاريخ بكل صرامة إلى قسمين لا يمكن أن يتمازجان إطلاقًا. لهذا كان الحجاب