كبح الرجل بكاءه: تقليد ذكوري بالي أم ضرورة أخلاقية؟


إذاما نظرنا إلى الأنوثة من منظور نفسي صرف، فإنه من السهل جدا أن يتأنث الإنسان. إن الأنوثة تبدو كعملية سيلان للشعور، تداعٍ بلا تحفظ وبلا خوف، فليس هنالك قيود على شعور المرأة، فهي بطول التاريخ وفي كل الثقافات، الكائن الحاني اللطيف الذي يتصدى للأزمات والمناسبات السعيدة بالبكاء، حتى أنه أصبح متوقعًا - بل ربما مستأنسًا- منها أن تسيل عاطفيًا في أي وقت دون أن يكون ذلك مستغربًا. إنه الطقس الأنثوي العتيق الذي نُحِت تقريبا في ذكرى كل حدث مفصلي ضمن حيواتنا.


يبدأ الذكر حياته بذات السيلان الشعوري، إنه يتداعى عاطفيا ويبكي كطفل متوقع منه ذلك. فالبكاء الدامع هو خصيصة بشرية، يُعزى ذلك لأن الإنسان من بين كل الكائنات، يمر بفترة طفولة طويلة، فهو حتى بعد أن يكتمل جسديًا، يبقى اعتماديًا من حيث حاجته للرعاية والتربية والتعاطف، مما يجعل البكاء عملية تواصل مهمة للتعبير عن احتياجه (1).

ما يلبث الطفل الذكر حتى يبدأ مرحلة انتقالية مبكرة يتعلم فيها أنه ليس أنثى. فبمجرد أن يتعلم الطفل ضمائر التذكير والتأنيث في اللغة (هو/هي)، يبدأ في تمييز الهوية الجنسية، فمثلا تقارن دراسة (3) بين ثلاث مجموعات من الأطفال، الأولى لغتها الأم العبرية، والثانية الإنجليزية، والثالثة الفنلندية. الأطفال الذين لغتهم الأم العبرية، يكونون أقوى وأسرع إدراكًا للهوية الجنسية من أولئك الذين نشؤوا في بيئة إنجليزية. لأن العبرية (مثل العربية) تحتوي على ضمائر جنسية منوعة للجموع والمفرد، بعكس الإنجليزية التي يغيب فيها التحديد الجنسي بالنسبة لضمائر الجمع (we/they) والمفرد والجمع المخاطب (you)، أو الفنلندية التي لا تحتوي محددات جنسية بالمطلق مما يؤخر إدراك الهوية الجنسية لدى الأطفال الفنلنديين أكثر من المجموعتين الأخريتين. هذا الإدراك للهوية الجنسية يحدث ما بين العامين إلى الثلاثة أعوام الأولى من عمر الطفل، بمعنى أنه إدراك يتشكل في مرحلة مبكرة جدا.

بالتدريج يبدأ الطفل الذكر في مرحلة متقدمة يدرك أنه ليس مثلها -مصدر مدده العاطفي الأكبر-، أمه. ثم يبدأ رحلته في اكتشاف معنى أن يكون متمايزًا عن أمه، وأن ينمّي في واقعه معاني وسلوكيات الاختلاف عنها. وهي مرحلة لم تضطر إلى ولوجها أي أنثى نشأت في كنف أم مسؤولة، فهي لم تضطر إلى خوض حالة الشعور بالتمايز التي كابدها الذكور تجاه أمهاتهم، وبالتالي لم تضطر إلى الإنفصال عن أمها لتبحث عن معنى أن تكون أنثى، بل إنه معنىً كانت تستمده من الأم (2). ومعظم الذكور تقريبًا يتذكرون جيدًا كيف أن تفكيك الهوية الجنسية وملابساتها كانت واحدة من مغامرات الطفولة التي لا تنسى.

يحاول العلاج النفسي المجندر أن يعالج الرجال بالأسلوب الأنثوي (الفضفضة) الذي ليس سوى عملية تسييل للشعور، ويستند على حقائق سخيفة من قبيل أن الدموع هي تصريف لهرمونات القلق والتوتر، وكأن الجسد ليس به عشرات الطرق ليتخلص من الترسبات السامة. وكل ما قدمه العلاج النفسي المجندر أنه ضاعف أعداد الرجال المنتحرين في كل أنحاء العالم إلى ضعف وضعفين وثلاثة خلال أقل من ثلاثين سنة. في دراسة (1) قورن فيها بين بكّائين وآخرين غير بكّائين بعد تعريضهم لمحفز عاطفي حزين، كانت النتيجة أن البكائين سجلوا ارتفاع كبير جدا (significantly بتعبير الدراسة) في سلبية المزاج، بينما لم يتغير شيء بالنسبة لغير البكائين. تَخْلُص الدراسة إلى أن المزاج بعد البكاء يحتاج إلى وقت ليس فقط ليتعافى من تحوله السلبي، بل حتى لتنخفض فيه السلبية إلى مستويات ما قبل البكاء.

ولنا هنا أن نتساءل: لماذا يُطالب الرجل بأن يبكي كالمرأة ولا تُطالب المرأة بأن تكبح نزوعها للبكاء كالرجل؟ خصوصًا أن البكاء حالة تداعٍ شعوريّ ربما لا نحتاج في معرفة آثارها إلى دراسة. والجواب ببساطة: أن التأنيث أبسط وأقل تكلفة، ولأنه اتجاه عالمي، ولأن مطالبة النساء بأن لا يبكين لا تصلح إلا كفكرة لقصة خيالية.

كبح البكاء هو أبعد من كونه مجرد تنشئة اجتماعية تحاول قصر البكاء على النساء "لأنه علامة ضعف"، بل هو عملية مقاومة داخلية، ليس فقط لكي يتجنب بها الرجل أن يبدو ضعيفا، بل إنه بذلك يتعلم كبح طبيعته الاندفاعية. فمن ناحية بايولوجية صِرفة، يضخ جسد الذكر نسب أعلى بكثير مما يضخ جسد الأنثى من التستوستيرون (الهرمون الذكوري)، لذلك فالأولاد يسجلون مستويات أعلى بكثير من البنات في الحركة والاندفاعية وفورانات الشعور (4). ذلك يجعل الذكور أكثر جنوحًا إلى العنف والهيمنة والتنافسية.

تقريبا، كل الأزمات الاجتماعية المدمرة التي سجلها التاريخ كان وراءها ذكور مدفوعون بنزعاتهم الغريزية للعنف والتنافسية والهيمنة، وحتى على المستوى الاجتماعي المحدود، النسبة العظمى من جرائم العنف يقترفها الذكور. اتبعت كل الثقافات استراتيجية بسيطة لترويض هذه السمات الذكورية، وهي بتعليم الذكور أن يكبحوا ليس غضبهم فحسب، بل كل مشاعرهم. ذلك لأن فورات العنف كثيرا ما تكون مدفوعة أيضًا بمشاعر الخوف والحسد والشعور بالإهانة والإحباط (4).

فإذا كان البكاء يورط الشعور في آثار لا تنجلي بسهولة، وإذا كان الشعور السلبي يثبط مراكز التعقل في الدماغ (5)، وإذا كان الرجل في صراع مع نزعاته الغريزية تجاه العنف والهيمنة والتنافسية والتي يفرضها عليه حتى تركيبه البايولوجي (فهذه كلها نزعات يعززها هرمون الذكورة: التستوستيرون)، فإن مقاومته للبكاء تعني مقاومته لسيلان الشعور، تعني أن يكبح نزوعه الغريزي للتوحش.

"لقد ارتبط الوقار بالرجولة ليعمل كقيد على غريزة العنف التي تمثل أحد عناصر الذكورة، والتي كثيرا ما تفجرت بشكل مسعور. ربما نستطيع الآن أن نرى الحكمة في أن كل الثقافات كانت دائما تكرس فكرة أن الرجال لا يبكون. مع كل ما قد قيل، ربما أن هذا السلوك جنّب البشرية ما لا يحصى من مآلات فورات العنف بطول التاريخ"(4).

إن البكاء في حال المرأة ليس بهذا التعقيد النفسي والاجتماعي، فتركيبها الغريزي والبايولوجي لا يضطرها لمواجهة كل هذه النزعات، لذلك فكونها تبكي وتترك شعورها ينسال هي مسألة ليست بتلك الخطورة، وعموما هو جزء من طبيعتها السائلة، فهنالك إجماع علمي بأن النساء يبكون أكثر، كمًّا وأفرادًا (6). وربما أن المرأة حين تبكي إزاء الرجل فإنها تعطيه فرصة ليتصل بأبعاد إنسانية طالما اعتاد كبتها، ربما أن هذه الطبيعة الأنثوية ضرورية لترشيد تجلد الرجل تجاه الشعور. فحتى لا يؤدي كبت التفاعل مع المشاعر إلى نتيجة عكسية، فيؤدي إلى التوحش بدل أن كانت الغاية منه هي ترويض التوحش، فإن الرجل يتعلم الاتصال بالشعور واحتواءه، لكن من خلال الآخر، من خلال المرأة.

إن الرجولة اصطناع من الداخل والخارج، إنها تجاوز لحالة السيلان الأنثوي العاطفي الطبيعي الذي يولد به الإنسان. لقد راج في كل الثقافات أن يُوَبَّخ الولد الباكي بتذكيره أن "الرجال لا يبكون"، وهي عبارة لا تصادر الرحمة من نفس الرجل، ولا تعني أنه لا يبكي في لحظات الأسى الكبرى، بل هي تؤكد على أن الرجولة حالة تصلّب ضد السيلان، فاعتياد الرجل أن يسيل عاطفيًا يعني أن يفقد السيطرة على نزعاته المتوحشة كذلك.


____________
مراجع:

(1) Ad J. J. M. VingerhoetsIgor, Kardum Marina, Zupčić Maja, ŠantekMia Šimić, Why crying does and sometimes does not seem to alleviate mood: a quasi-experimental study

(2) Joseph Nicolosi, A parent’s guide to preventing homosexuality, Manhood is an Achievement (20-26)

(3) Alexander Z. Guiora, Benjamin Beit‐Hallahmi, Risto Fried, Cecelia Yoder, LANGUAGE ENVIRONMENT AND GENDER IDENTITY ATTAINMENT.

(4) Ilan Shrira, Why Bottling Up Emotions Is Central to Masculinity

(5) Nadine Jung, Christina Wranke, Kai Hamburger, and Markus Knauff, How emotions affect logical reasoning: evidence from experiments with mood-manipulated participants, spider phobics, and people with exam anxiety

(6) Lorna Collier, Why we cry, New research is opening eyes to the psychology of tears.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ويكيبيديا: عالم مفتوح للمعرفة أم أداة للسيطرة؟

الاعتزال بوصفه أداة للاختراق الأديولوجي